النانو.. المستقبل فائق الصغر وبداية قديمة مع السيف الدمشقي

عبر تطور مسيرة الحضارة البشرية، نستطيع أن نرى بوضوح ان كل التقنيات التي تبدأ كبيرة تتطور شيئاً فشيئاً لتصبح أصغر وأصغر بهدف سهولة النقل والاستخدام والتكلفة على المدى الطويل. فهل ستكون تقنية النانو هي المستقبل؟

الحواسيب اليوم ركيزة أساسية في حياتنا، سواءً من حواسيب محمولة أم هواتف ذكية أو حتى الساعات الذكية التي نرتديها حول معاصمنا. لكن البداية لم تكن كذلك، فالحواسيب الأولى كانت تأخذ مساحات هائلة بالنسبة لما نراه اليوم، غرف كبيرة أحياناً.

فكما ذكرنا سابقاً فالتطور التقني يتجه نحو الأصغر دائماً. وتقنية النانو تعتبر القفزة الكبيرة في هذا التطور. لكن أولا علينا فهم ماذا تعني كلمة نانو (Nano).

ما هو النانو؟

النانو هو أحد الواحدات الثانوية في القياس، فكما لدينا الكيلوغرام والذي هو 1000 غرام، لدينا أيضاً الميلي غرام وهو جزء من 1000 جزء من الغرام، ولتوضيح ما هو النانو سنقارنه بالمتر، فإن قسمنا الميلي متر إلى مليون جزء فإن كل واحد من هذه الأجزاء الصغيرة يسمى نانومتر.

النانو هو مقدار غاية في الصغر فمثلاً الإنش الواحد يحتوي على 25,400,000 نانو متر، وسمك ورقة الجريدة يعادل تقريباً مئة ألف نانو متر. وعلى مجال مقارنة أخر، لو كان حجم صفيحة الرخام نانو متر، فالمتر سيكون بحجم الأرض (أكبر بمليار مرة).

ما هي تقنية النانو؟

تقنية النانو هي العلم ، الهندسة والتكنولوجيا، المقامة على مقاييس النانو والتي تكون عادة بين 1 إلى 100 نانومتر. أي أنها دراسة ومعالجة المادة على المستوى الذري والجزيئي. وهي أبعاد تتعامل مع 5 ذرات إلى 1000 ذرة معاً فقط. وهي أصغر من الأحياء الأولية مثل الباكتيريا فرضاً.

بداية الحكاية

البروفيسور ريتشارد فاينمان، الأب الروحي لتقنيات النانو

بدأت الفكرة الأولى لتقنية النانو في محاضرة للفيزيائي الشهير “ريتشارد فاينمان” (Richard Feynman) في نهاية عام 1959 ألقاها أمام “الجمعية الأمريكية للفيزياء” (American Physical Society) بعنوان “هناك الكثير من المساحات الكبيرة في القاع” (There’s Plenty of Room at the Bottom) تحدث فيها عن إمكانية التلاعب المباشر بالذرات بشكل منفرد كنوع أكثر قوة من الكيمياء الصناعية التي كانت موجودة حينها.

مرّت خطبته في ذلك اليوم مرور الكرام ولم تلهم أحداً ليبدأ هذه الثورة، وكان ذلك حتى تسعينيات القرن الماضي حيث بدأت فكرة التلاعب بالذرات بشكل مفرد تظهر كتطبيق فعلي لما تحدث عنه البروفيسور فاينمان.

السيف الدمشقي والنانو

سيف مصنوع من الفولاذ الدمشقي

على مدى آلاف السنين قام البشر باستخدام تقنيات النانو دون معرفة تفاصيل ما يفعلون ولعل أكبر دليل على ذلك هو السيف الدمشقي القديم الذي كان معروفاً بمتانته العالية.

خلال عملية تصنيع السيف كان الحدادون يقومون ببناء الخاصيات النانوية للمعدن دون معرفة ذلك، فالسيف الدمشقي كان يحتوي على أنابيب الكربون النانوية وأسلاك السمنتيت النانوية -السمنتيت هو مركب معدني من الحديد والكربون- التي أعطت السيف خصائصه القوية تلك.

أنابيب الكربون النانوية في السيف الدمشقي تحت المجهر

تطبيقات لتقنيات النانو

كما كل التقنيات والتكنولوجيا الجديدة فهدفها الأساسي هو أيجاد طرق حديثة لتسهيل حياتنا وما نقوم به وتقنية النانو لها مجال مساهمة واسع.

  • الطب: اليوم تتم مهاجمة الخلايا السرطانية عن طريق ضخ الجسم بكيمات كبيرة من المواد الكيميائية التي لا تميز بين الخلايا المصابة والخلايا السليمة، فاليوم يقوم الباحثون بتطوير جسيمات نانوية بحجم الجزيئات التي تقوم بإيصال العلاج -كالمواد الكيميائية في حال السرطان- بشكل مباشر لخلايا محددة في الجسم، الأمر الذي سيقلل الكثير من المخاطر الناتجة عن العلاج التقليدي.
  • الإلكترونيات: باستخدام تقنيات النانو سنستطيع التأثير بشكل كبيرة على الأجهزة الإلكترونية لتصنيع معالجات أصغر حجما، وأكثر كفاءة وأقل استهلاكاً للطاقة، إضافةً لإمكانية صناعة بطاريات ذات حجم صغير وقادرة على تخزين طاقة كبيرة جداً. هذه الأمور كافة ستفتح مجال واسع لأجهزة الكترونية جديدة ذات قدرات هائلة في المستقبل وستشكل قفزة كبيرة في هذا المجال تحديداً من غيره من المجالات.
  • الطعام: بدأت تؤثر تقنية النانو بشكل ملحوظ في مجال علوم الأغذية، فتقوم الشركات بتطوير مواد نانوية لجعل المذاق أفضل، وأيضاً من أجل قضية الأمن الغذائي وذلك من خلال المحافظة على جودة الطعام أثناء نقله وتوزيعه.
  • خلايا الطاقة الشمسية: مع التقدم الحاصل في المجال النانوي استطاع الباحثون تطوير نمط جديد من الخلايا الشمسية التي تمتلك كفاءة أفضل وتكلفة تصنيع أقل من الخلايا الشمسية التقليدية.
  • الفضاء: سيستعمل علماء الفضاء والفلك تقنيات النانو لجعل استكشاف الفضاء أمر أكثر سهولة، فبمواد خفيفة لكن أكثر متانة سيقل استهلاك الوقود بشكل كبير مما سيسرع العملية إضافةً لخفض التكلفة الكبيرة خلال كل رحلة فضائية.
  • الوقود: قد تستطيع تقنية النانو حل مشكلة الوقود الأحفوري على جوانب عديدة، فقد تستطيع جعل عملية معالجة النفط لاستخلاص الوقود منه عملية صديقة للبيئة، كما ستزيد من كفاءة عمل المحركات وبالتالي مجال قيادة أكبر بكمية الوقود ذاتها.
  • الأدوات الرياضية: إن كنت من محبي رياضة التنس أو الغولف فستكون سعيداً بمعرفة أن الأدوات الرياضية بدأت أيضاً في الدخول في المملكة النانوية، فتستخدم هذه التقنية في صناعة مضارب التنس والغولف من أجل زيادة متانتها وملئ كافة العيوب التي قد تكون موجودة فيها.
  • الأقمشة: لعل هذا المجال سيكون الأكثر تأثيراً على حياتنا اليومية، فالأقمشة المصنعة بتقنيات النانو ستتمتع بخصائص رائعة دون زيادة في الوزن أو السماكة. الملابس الكرهة للماء والوحل على سبيل المثال، لا يهم كم من الماء او الوحل ستضع عليه، فلن تعلق حتى ذرة واحدة على الملابس وانما ستنزلق كما تنزلق الكرة على القماش.

ختاماً.. يمكن القول باختصار أن تقنية النانو هي بوابتنا للمستقبل، فرغم حداثتها إلا أننا نجد لها تطبيقات هائلة في حياتنا اليومية فبعد قليل من الزمن والتطور، سنكون قادرين على صناعة أشياء لم نتخيل حتى إمكانية وجودها.