The Lobster.. فنّ الكوميديا السوداء

تصميم الصورة: حيدر حلوة

“هل فكرت في الحيوان الذي تود أن تكونه بحال انتهى بك الأمر بمفردك”
“نعم، الكركند”
“لماذا الكركند”
“لأن الكركند يعيش لأكثر من 100 عام، ذو دم أزرق مثل الأرستقراطيين، ويظل خصبًا طوال حياته. أحب أيضًا أن أرى.. أتزلج على الماء وأسبح جيدًا منذ أن كنت مراهقًا”.

يتخيل الكاتب والمخرج اليوناني “يورغوس لانثيموس” في فيلم The Lobster، عالمًا يتم فيه تنظيم ومراقبة العلاقات. لا يُسمح للبالغين بأن يكونوا عازبين. في حال عدم امتثالهم سيتم تحويلهم إلى حيوان يختارونه مسبقًا.

يرمينا فيلم The Lobster إلى عالمه بمشهد من لقطة واحدة بداية الفيلم، نتابع امرأة مضطربة في منتصف العمر تقود بسرعة. تتوقف على جانب الطريق، في مكان يبدو خاليًا، بينما تدور الكاميرا حول الزجاج الأمامي للسيارة، لنجد ثلاثة حمير ترعى تحت المطر. تُعدِم المرأة أحدها بثلاث رصاصات، وتعود لسيارتها.

أنها إحدى لحظات الصدمة الغريبة في الفيلم، والتي قرر المخرج أن يبدأ بها، ليعطينا لمحة عمّا هو قادم.

يمكننا أن نفترض أن هذه المرأة التي كانت تُعرف ببساطة باسم “قاتلة الحمار” على موقع IMDB، تعرف الحمار أو بالأحرى تعرف الشخص الذي تحول إلى هذا الحمار.

لاحقًا في الفيلم، نتعلم أن التحول إلى حيوان هو بداية جديدة من نوع ما.

وتقول مديرة الفندق التي استقبلت “ديفد”، الشخصية الرئيسية في الفيلم والذي يلعب دوره ببراعة الممثل “كولين فاريل”: “حقيقة أنك ستتحول إلى حيوان إن فشلت في الوقوع بحب شخص ما أثناء إقامتك هنا ليست شيئًا يجب أن يزعجك أو يحبطك. فقط فكر.. كحيوان سيكون لديك فرصة ثانية للبحث عن شخص تحبه”.

هناك نظرية شائعة مفادها أن الحمار كان في يوم من الأيام عشيق المرأة السابق، وقد قتلته في لحظة غضب شديد. يبدو أن الحمار وجد حبًا جديدًا وأنشأ عائلة له. في المقابل، المرأة وحيدة. مهما كانت وأيًا كانت نيتها، يبدو أنها فشلت بمقياس هذا المجتمع البشري الغريب.

نقابل “ديفد” لأول مرة، نقترب منه ببطء من الخلف، ونسمعه يسأل “هل يرتدي نظارات أم عدسات لاصقة؟”.

السؤال السابق يعد المؤشر الأول لنا عن وجود تلك الفكرة الغريبة، فكرة وجود قاسم مشترك بين الشخصين هو شرط كي يكونا سويًا.

ربما هذا يبدو منطقيًا، لكن أسلوب الطرح هو الغريب. فالقواسم المشتركة ليست تلك التي نعيشها في حياتنا، بل هي أمور “أتفه” وأبسط من تلك المعتادين عليها، كأن يكون للشخصين أنف عريض، أو يكونا من محبي حلويات معينة.

هذا الشرط أعطى لفيلم The Lobster سوداويتيه الهزلية.

تلك العقلية المتشددة -وبشكل مثير للسخرية- مطبقة بصرامة، فالفيلم يسخر من السلطات المجتمعية التي تقرر من يمكنه الزواج بمن، وفق شروط المجتمع.

إنه مجتمع يحاكي بشكل ما ذاك العالم الذي خلقه “جورج أرويل” في كتابه “1984”، حيث تم تجريد العامّة المشاعر، ولعل ذلك يبدو جليًّا في الحوارات التي تجري، فالجميع يتكلم برتابة باردة خالية من المشاعر.

الضيوف موجودون في ذلك الفندق للعثور على نصفهم الآخر، ويتم تذكيرهم باستمرار بمدى فظاعة أن تكون عازبًا بطرق سخيفة وملتوية.

يشرح المخرج كيف يتم تنظيم قاعة الطعام في الفندق: “كل شخص هناك يجب أن يجلس بمفرده على طاولة واحدة. جميعهم يواجهون نفس الاتجاه، ينظرون للمنطقة التي يتواجد فيها الأزواج، لذا فهو نوع من التحفيز للأشخاص الوحيدين في الفندق”

في النصف الثاني من الفيلم، ندخل عالم “المنعزلون – The Loners”، الخارجون عن القانون، الذين تمردوا على المجتمع وتقبلوا وضعهم كأشخاص وحيدين يعيشون في الغابة. لكن هم أيضًا لديهم مجموعة صارمة من القواعد والقوانين، وبالطبع عقوبات لغير الملتزمين بهذه القوانين.

يقدم فيلم The Lobster طرفين متعاكسين تمامًا برأيين مختلفين جذريًا عما يجب أن يكون شكل العلاقات بين الأزواج. ثقافتان موجودتان في الفندق والغابة. ليسا فقط على دراية بوجود بعضهم البعض، ولكنهم يغزون أيضًا مواقع بعضهم البعض.

يقوم نزلاء الفندق بمطاردة الأشخاص المنعزلين والقبض عليهم لإضافة أيام إلى إقامتهم في الفندق، بينما يقوم المنعزلون بمهام خفية لتخريب العلاقات في الفندق.

كلاهما مذنب بفرض قوانينهم وآرائهم على الطرف الآخر. وهو ما يسلط الضوء على مشكلة حقيقة في عالمنا، ولكن بشكل كوميديّ سوداويّ.

العلاقات التي تظهر في الفيلم تعطي انطباع الوحدة أكثر كون الشخص وحيدًا. وربما الاستثناء هو العلاقة التي تنشأ بين “ديفيد” والسيدة ضعيفة البصر. وحتى هذه العلاقة مبنية على ضعف البصر المشترك بينهما.

بالطبع لا شيء جميل يمكن أن يدوم في عالم مضطرب كهذا.

المخرج تقصّد عدم التطرق لما يحصل للشخيصات الرئيسية نهاية الفيلم، لقد تركنا لنتخيل نهاية قصتهم. ويقول شارحًا: “لا أريد أن أنهي فيلمًا بإعطاء إجابة محددة جدًا لكل سؤال”.

ربما تم العثور على روبرت – الرجل اللطيف – وتحويله إلى ببغاء كما يشاء. وربما وإحدى النساء اللواتي اصطحبهن “ديفد” إلى غرفة التحويل كانت هي الحمار في بداية الفيلم، أو قد يكون حولها لأرنب صغير عاجز، وربما هذا الاقتراح الأخير قد يحمل الحس الشاعريّ للعدالة.

نصل للمشهد الأخير للفيلم. بعد أن ترك “ديفد” والسيدة ضعيفة البصر -التي أصبحت الآن عمياء- حياتهم مع المنعزلين خلفهم. يحاولان الدخول إلى المجتمع بنيّة أن يصبحا زوجين. لكن “ديفيد” يجب أن يعمي نفسه أولاً. ليس بالأمر المهم..

اللقطة الأخيرة استمرت لأكثر من دقيقة.. السيدة ضعيفة البصر تنتظر عودة ديفيد.. لكنه لم يعد، على الأقل لم نرَه يعد.

تفسير كل شخص لنهاية الفيلم قد تكون دليلًا عن مدى التفاؤل أو التشاؤم للشخص ذاته.

ولكن هناك بعض الدلائل أثناء انتظار السيدة ضعيفة البصر في المقهى. يتوجب النظر إليها عن كثب:

مر وقت كافٍ أثناء انتظارها لتشرب معظم ماءها وجاء النادل ليعيد ملء كأسها. وكم شخص سيستطيع اقتلاع عينه بسكين ليكون مع من يحب.. قد يكون الحب أعمى، لكن ليس بهذا الشكل.

كما يسير زوجان في الخلفية خارج المقهى، معطيًا شعور أن الحب -على الأقل كما يتصوره المجتمع- قد عبرَ من جانبها وتركها وحيدة.

ينتهي الفيلم هناك بشاشة سوداء ويتركنا مع عنوان الفيلم The Lobster.. (الكركند). الحيوان الذي أراد “ديفد” أن تحول له بحال فشل بإيجاد الحب في الفندق.

ومع انتهاء شارة الفيلم، تنتهي الموسيقة ويتركنا المخرج مع صوت أمواج البحر.. وهناك قد يجد البعض جوابهم حول مصير “ديفد”.