“نحن نقبل واقع العالم الذي عُرض علينا. الأمر بهذه البساطة”
هكذا أجاب “كريستوف” صانع البرنامج التلفزيوني “The Truman Show” عندما سأله أحد الصحفيين: “لماذا تعتقد أن ترومان لم يقترب من اكتشاف الطبيعة الحقيقية لعالمه حتى الآن؟”.
في بداية فيلم “The Truman Show”، يسقط نجم من السماء، حسنًا بالواقع… يسقط ضوء من سقف مجموعة إضاءة مرتفعة ارتفاع السماء، تحيط ببلدة اصطناعية مبنية لحياة رجل واحد، والترفيه للعالم أجمع.
كُتب على الضوء “Sirius 9 Canis Major” الذي يشير إلى “سيريوس- Sirius” ألمع نجم في سماء الليل ، هذا النجم الذي أطلق عليه “هومر” ذات مرة “آية شريرة تجلب الحرارة والحمى والمعاناة الإنسانية”.
في الفيلم، يعد سقوط سيريوس هو الأول في سلسلة تمزقات متتالية في الواقع المزيف لترومان، سلسلة تنتهي بتمزق حقيقي، حين يصل ترومان إلى حدود عالمه الزائف، خرق لحقيقة الأشياء وواقعها.
ومثل “هومر” يتصور مخرج الفيلم “بيتر واير” هذا الباب أنه يؤدي إلى واقع حقيقي بمصطلحات أكثر قتامة مما قد تتوقعه. جميع الرموز التي نربطها عادةً بالخير والإيجابية أصبحت الآن وراء ترومان؛ السماء الزرقاء الساطعة، أشعة الشمس التي تخترق الغيوم، وتصل للبحر الأزرق…
من ناحية أخرى، تقلص الواقع والحقيقة والمصداقية إلى مستطيل صغير واحد مظلم، يكاد يكون “الضوء في نهاية النفق”، الذي نربطه عادةً بالحرية والخلاص.
طوال فترة الفيلم ترتبط حرية ترومان ارتباطًا وثيقًا بالصدمة، ويرافق كل نظرة خاطفة وراء الستارة شكل من أشكال الألم؛ سواءً كان ألم رؤية صورة أحد أحباءه المتوفين، أو ألم في ذكرياته.. أو ببساطة ألم عدم اليقين من معرفة حقيقة ما يراه؛ هذا بالطبع ألم نعرفه جميعًا. لهذا السبب في معظم الأحيان نرى فقط ما نريد رؤيته.
عاش ترومان حياةً مليئة بالتلميحات والإشارات، إشارة تدل على حقيقة جوهرية بالنسبة لترومان، حقيقة مفادها أن عالمه ليس كما يبدو له.
استيعاب هذه التلميحات ودمجها سويًا يعني إعادة تكوين كامل لقصة وجوده، وإعادة كتابة قصة مثل هذه لها ثمن باهظ. المعاناة.
استطاع المخرج “بيتر واير” والكاتب “أندرو نيكول” أن يتنبأ حول الكثير من الأمور، من وجهة نظر شخص يعيش عام 1998، تاريخ إصدار الفيلم، برامج “تلفزيون الواقع” في كل مكان، ظهور وسائل المراقبة الجماعية التي تنتهك خصوصية الأفراد.
فاستطاعا الدخول لعقول كبار العمر بسهولة، فهذه الأفكار توافقت مع أفكارهم حول المراقبة أو التنصت، والتي خلقها الارتياب بعد الحرب الباردة؛ وجيل الوقت الحالي من النرجسيين، حيث يزعجهم ألا يكونوا مراقبين أو مرئيين.
وهو ما يميز هذا الفيلم، تلك الرموز والإشارات، الرسالة بين السطور، الأسئلة الكثيرة التي يستحيل علينا تجاهلها، تقف بثقلها على شاشاتنا بألوانها، بوضوح، حتى لطفل صغير.
مثل بلدة “سي هافن” التي يعيش فيها ترومان، يبدو أن عالمنا يشهد سلسلة مماثلة من التمزقات، كالأزمة الاقتصادية عام 2008، أو تلك التي نشهدها اليوم، بعد أزمة فايروس كورونا الذي يجتاح الكوكب، أو ربما الربيع العربي أو قتل الأشخاص السود على أيدي رجال الشرطة، أو ربما إدراكنا المتزايد لهذه القضية بالأخص بعد مقتل جورج فلويد الذي أشعل تظاهرات في كل أنحاء الكوكب.
المجتمعات على اختلافها تشبه إلى حد كبير “ترومان بربانك”، تعمل وتكدح مثله لأعوام وسنين طويلة في ظل أنظمة تظهر مدى سخافتها، وسهولة التخلص منها نهائيًا. فالمجتمع -مثل ترومان- يحاول إيقاظ نفسه من كوابيسه، وعالمه المخطط له، بينما يتعثر تحت الألم الذي يرافق هذا الحراك.
فيلم “The Truman Show” هو عملية انتاج ضخمة مع طاقم من آلاف الأشخاص، ولكن على الرغم من كل القوة التي يقودها “كريستوف”، فإن نجاح العرض يتوقف دائمًا على ترومان نفسه. يمكن للعمل أن ينجح فقط إذا كان ترومان يؤمن به.
ورسالة صناع الفيلم كانت واضحة، حين تحدث كريستوف قائلًا: “كان بإمكانه المغادرة في أي وقت إن كان مصممًا تمامًا على اكتشاف الحقيقة، فلا طريقة لنا لمنعه”.
أصحاب القوة في عالمنا يصنعون حياتنا وفق لقراراتهم محاولين إبقائنا في مكاننا، بشكل مشابه لما يقوم به كريستوف مع ترومان، لكننا أيضًا نسمح لهم، فنحن نقف في أماكننا دون محاولة للتغيير.
من الواضح أننا اليوم نستيقظ بسرعة على واقع سياسي جديد. كما هو الحال في عالم ترومان، اكتسبنا علاقاتٍ مع هذه القوانين، مع هؤلاء الأشخاص.. محركي الدمى، هذه العلاقات عززت قناعاتنا بأن ما يحصل أمر لا نستطيع مواجهته، مثل قوانين الطبيعة، عن طريق أخذ أي تمزقات تحصل في عالمنا، ثم تجاهلها.. ونسيانها.
لكن الأيديولوجيات لا تستمر إلى الأبد، وفي النهاية تنهار تحت ثقلها ورفض الناس المتزايد لتصديقها.
يُظهر لنا فيلم “The Truman Show” كيف يبدو الاستيقاظ. ويبين كيف يتم تسويق رسائل الأيديولوجية الحاكمة في وسائل الإعلام وفي التعليم، ويوضح لنا كيف يمكن للأفراد، حتى الأشخاص الذين نثق بهم، أن يصبحوا لسان حال نظام فاسد.
والأهم من ذلك كله، أن الفيلم يتخيل التحرر أو الاستيقاظ، ليس كالمدينة الفاضلة، ولكن كعالم معيب مثل عالمنا المليء بالتعددية والتناقض والأشخاص المهووسين بالتلفاز.
إنه عالم لا يمكن اكتسابه إلا من خلال النضال والألم، عالم يبدو في كثير من الأحيان وكأنه نذير شؤم في الوقت الحالي، فهو ليس أشعة الشمس اللطيفة تخترق الغيوم في السماء أو بحر لا نهاية له؛ لكن بابًا صغيرًا غامضًا يؤدي إلى منطقة مجهولة، عالم نأمل أن يُستثمر بموثوقية أكبر.
وكما يختم ترومان الفيلم “في حال لم أراكم، عمتم مساءً”.