حلم داخل حلم.. للاستمتاع بفيلم Inception يتوجب علينا تقبّل فكرة، فكرة أن هناك أحلام تقبع داخل كل منا، وداخل تلك الأحلام توجد نسخة منّا تتجرأ أن تحلم أيضًا.
المخرج كريستوفر نولان يطلب منا أن نؤمن بهذه الأحلام، بأحلامنا، كما كرر عدد من الشخصيات عبر الفيلم: أن نقوم بقفزة عمياء. إنه نولان كما اعتدنا عليه في أكثر حالاته غرابة.
إنه فيلم يهدف لعرض فكرة، فكرة واضحة غير مختبئة وموجودة ليراها الجميع.. علينا أن نحلم. فالأحلام جيدة، علاجية ومخيفة أيضًا، لكن يجب أن نحلم على أية حال.
يبدو فيلم Interstellar أنه يتشارك مع Inception بالقليل من الأفكار، فالمخرج لا يريدنا أن نؤمن بالأحلام، بل يريدنا – ظاهريًا على الأقل- أن نؤمن بالحب.
تتحدث الشخصيات في Interstellar عن الحب كقوة عابرة للأبعاد تجعلنا بشرًا. ومع ذلك يبدو أن الفيلم يحاول إيصال رسالة أعمق، شيء أكثر إثارة، ويمكن رؤية هذه الرسالة، ولكن ليس في حلم داخل حلم، وإنما في فيلم نولان داخل الفيلم.
فيلم داخل الفيلم
التقديم
يبدأ الفيلم بمجموعة من الأحداث على الأرض، وشرح لكثير من المعلومات في الفيزياء والوضع السيء الذي وصل له الكوكب، لينتهي القسم الأول منه بترك كوبر (ماثيو ماكونهي) ابنته البالغة من العمر عشر سنوات مع ابنه المراهق وجدّهما، ليجد كوكبًا جديدًا للإنسانية مع بدء تناقص إمدادات الأكسجين على الأرض.
عندما بدأ فريق العالم مع كوبر هبوطهم على أول كوكب محتمل بحثًا عن رواد الفضاء المرسلين إلى هناك سابقًا وبياناتهم التي قاموا بجمعها هناك، يبدأ نولان برسم عدوّ بشكل واضح لأول مرة.. الزمن (حتى الآن على الأقل).
كل ساعة يقضيها الفريق على هذا الكوكب ستكلفهم سبع سنوات مقارنة بالأرض، بفضل تأثيرات النظرية النسبية العامة.
نحن كمتابعين نعلم أنه يتعين عليهم زيارة هذا الكوكب والخروج منه بأسرع ما يمكن.. أو أن تلك الفتاة الصغيرة التي تبكي على سريرها قد لا ترى والدها مرة أخرى، أو أن الحياة على الأرض قد تنتهي أثناء بقاءهم على الكوكب.
هنا يبدأ الفيلم داخل الفيلم.
يهبطون، يبدأ المؤقت.. وكل لحظة على هذا الكوكب تبدو وكأنها ساعة بالنسبة لنا، لأنها تبدو كذلك بالنسبة لهم. لوقت قصير تبدو الأمور أنها على ما يرام. ثم يقول كوبر “تلك ليست جبالًا!”.
الحبكة
نحن كبشر نعتقد أننا نعرف كيف يبدو الفضاء – بشكل عام – وكذلك يعتقد كوبر والدكتورة براند، وهم -مثلنا- لديهم فكرة عما قد نراه هناك، في حال خرجنا من الغلاف الجوي للأرض، ومن ثم تظهر موجة عملاقة، لتدمر كل تلك الأفكار، والهدوء الذي شعرنا به مع الفريق.
باستخدام لقطة واحدة استطاع نولان أن يعرض لنا 3 أمور أساسية لفهم الموقف:
- المقياس: باستخدام لقطة ذكية استطعنا أن نرى ونشعر بضخامة تلك الموجة الهائلة.
- الخطر: مع تحرك الكاميرا قليلًا وتوضيح أكبر لحجم تلك الموجة الهائلة، نبدأ بالشعور بالخوف من الخطر المحدق بالفريق.
- الصحوة: تشكل هذه اللقطة لحظة الذعر الأولى في الفيلم، وهي دعوة للشخصيات -ولنا أيضًا نحن المشاهدين- كي نصحو؛ فالوقت ليس عامل الخوف الوحيد، بل المهمة ذاتها، العوالم الجديدة العدائية.
الإثارة
تحاول الدكتورة براند إكمال المهمة بأي ثمن، وكوبر على دراية أنها لا تخاطر بالوقت فحسب، بل تخاطر بحياتهم وحياة عائلته. رغم ذلك ورغم الموجة العملاقة التي تلوح في الأفق، تنطلق براند في محاولة لاستعادة البيانات.
وفي هذه الأوقات، ومنذ وصولنا للكوكب الجديد، بدأ المؤلف الموسيقي “هانز زيمر” بالتلاعب بأذهاننا بطريقة عبقرية، فالموسيقى في خلفية المشهد تحفر في وعينا الشعور بالخوف والخطر.. التوتر.
نسمع صوت تكات عقارب الساعة، رقاص الساعة يتأرجح ذهابًا وإيابًا مضاعفًا شعورنا بالخطر، تتكرر هذه الأصوات كل 1.25 ثانية تقريبًا، كل 1.25 ثانية هو يوم كامل يمر على الأرض. يمكننا أن نعدّ حرفيًا عدد الأيام التي تمر على الأرض، الوقت الضائع من كوبر وفريق العلماء.
تتسارع تكات الساعة.. مُضاعِفةً الشعور بالخطر لتتحول هذه الضجة إلى أوركسترا مهولة من التشويق؛ براند عالقة تحت البيانات التي أرادتها.. سيغرق الجميع.
يتدخل الآليّ TARS منقذًا براند، وترتطم الموجة العملاقة بالمركبة.. يعيشون، لكن المياه ملأت المحركات، ليبقو عالقين هناك لساعة؛ ومن ثم تهدأ الموسيقى.. الصمت.
عند منتصف هذه القصة يتوقف كل شيء، ونبدأ بتعلم مدى سوء ما حدث، خسروا وقتًا طويلًا، ساعة على هذا الكوكب ستعادل ما يقرب السبع سنوات على الأرض، ومن ثم.. تعود تكات الساعة، موجة عملاقة جديدة، المخاطر تتغلغل في وعينا والسنوات التي قد يخسروها مجددًا.
استطاع نولان في هذا الوقت الصغير أن يعطينا فرصة لنلتقط أنفاسنا مع الفريق داخل المركبة قبل أن تعود الأمواج مجددًا، لكن طريقته كانت “وحشية” بطريقة عبقرية، لأننا لازلنا محاصرين معهم، حتى أنه قام بتغيير العدسات المستخدمة في التصوير، لتبدو أقرب للشخصيات وليشعرنا بالحصار داخل المركبة معهم.
طريقة كتابة هذا المشهد أشبه بسباق تحمُّل، على عكس أفلام الأكشن التي تغمرنا بسرعة الأحداث فيها، نبقى منفعلين ومتحمسين فيها، لكن دون منحنا أي وقت لنشعر بالخوف.
لكن هنا منحنا نولان هذه الفرصة، التقطنا أنفاسنا، وما كدنا ننتهي حتى جاءت الموجة الثانية، ينطلق هدير المحركات بعد أن جفت جزئيًا، تعود تلك المعزوفة الرائعة لتذكرنا بما هو على المحك.. الوقت؛ ويستطيع الفريق الهروب في اللحظات الأخيرة.
الحصيلة
هنا تُختتم القصة ونبدأ برؤية عواقب ما حصل. يعود كوبر مع الفريق إلى المركبة الأم ليعلم حينها أنهم خسروا من حياتهم على الكوكب 23 عامًا، يجلس على الكرسيّ أمام الشاشة ليشاهد حياته -التي كان يجب أن يعيشها- تمر أمامه، يشاهد ابنه وابنته يتخلون عنه.
بالنسبة لكوبر لم يمضِ سوى بضع ساعات، ساعات خسر بها حياته وأطفاله.
وفي هذا المشهد يُظهِر نولان -مرّة أخرى- عبقريته في الإخراج، فالتركيز لم يكن قط على الشاشة، وإنما على كوبر ذاته، فيمضي حوالي ثلثي المشهد ونحن نشاهد كوبر في أفضل المشاهد التي مثلها ماكونهي -في الفيلم على الأقل- لأن نولان يعلم أن مشاعر رد الفعل أقوى تأثيرًا من الفعل ذاته. فما الرسالة التي يحاول إرسالها؟
ربما تكون أن تربية الأطفال هي رحلة تمرّ بسرعة مُحبِطة، أنه من الأفضل أن نكون موجودين في تلك اللحظات المهمة. فيلم نولان يريدنا أن نتذكر ونقدر ما نملك، وأن نقدّر اللحظات التي لدينا مع أطفالنا. فالدكتورة براند قالت عندما كانوا عالقين على الكوكب لكوبر “لا يمكننا العودة بالزمن إلى الوراء وإصلاح ما حدث، يمكننا فقط المضي قدمًا”.
استطاع نولان بقصة قصيرة تقارب الـ 15 دقيقة داخل فيلمه أن يقدم لنا قصة جديدة ومن ثم حبكة بالأحداث وإظهار الصراعات من أجل الوصول لذروة التشويق لينهي القصة بعرض ختامية لها، وكأنها.. فيلم داخل فيلم.
أحد الانتقادات الموجهة لأفلام كريستوفر نولان هو أنها ليست أكثر من مجرد أفكار، وأنها تعادل في ذلك النماذج المستقبيلة التي تعرضها شركات السيارات، ولا تقوم بإنتاجها أبدًا.
بينما يتبنى أقران نولان العصر الرقمي الجديد بسرعة، ويخفضون تكلفة الإنتاج باستخدام الشاشات الخضراء، لا يزال نولان ذلك الرجل الذي يحمل الكاميرا، ينفق أمواله على اكتشاف كيفية استخدام جهاز طرد مركزي لبناء بهو فندق دوّار، ما زال الرجل الذي يصور فيلمًا عن الفضاء حول الثقوب السوداء باستخدام الكاميرات التقليدية (Film Stock).
يمكن القول إن فيلم نولان الصغير داخل فيلم Interstellar هو شهادة على مدى قوة إيمان نولان بشيء ما ويريدنا أن نؤمن به، ومن المستبعد أن هذا الشيء هو الحب؛ بل غالبًا هو صناعة السينما.
اليوم من السهل أن نتوه بتلك الأفلام التي تدور وسط عالم سينمائي كبير وبميزانيات عملاقة، ومع ذلك فإن كريستوفر نولان بفيلمه هذا يعطينا أملًا بأنه هناك فرصة لتلك الأفكار العظيمة أن تظهر في السينما.